فمنذ سنوات، أسّس ترامب لعلاقة عدائية مع الإعلام الأميركي، متهمًا الصحافيين بأنهم «أعداء الشعب» و«كاذبون». واليوم، يعيد براك تدوير هذا الخطاب في أرض غير أرضه، عبر موقع دبلوماسي يدعي التفاوض والسلام، فيما يعكس، في الحقيقة، ثقافة سياسية تعادي النقد وتكرّس الوصاية.
وبأسلوبه الاستعلائي، خاطب براك، المقرّب من ترامب، الصحافيين وكأنهم غير مؤهلين للقيام بعملهم، وهو تكرار لأسلوب الرئيس الأميركي الذي لا يرى الإعلام إلا كطرف معادٍ يجب تحجيمه.
كما أنّه، برفضه الأسئلة واستخفافه بالصحافيين، صدّر براك نموذج ترامب إلى لبنان، أي نموذج الزعيم الذي لا يحبّ أن يُسأل ولا أن يحاسب.
وممّا لا شكّ فيه أنّ انبطاح معظم أقطاب السلطة الحاكمة أمام المستعمر الأميركي ساهم في تعمّد براك استخدام هذه اللغة الاستعلائية تجاه الصحافيين. وهو بذلك، كرّس فكرة أن رجال النفوذ المقربين من ترامب يتحركون دوليًا ويوجّهون الإهانات من دون رادع.
وإذا ما قارنّا بين خطابي ترامب وبراك تجاه الإعلام، نجد تقاطعاً وتشابهاً كبيرين يثبتان ما تقدّم. فالرئيس الأميركي سبق أن وصف الإعلام بـ«نفايات»، فيما وصف مبعوثه سلوك الصحافيين بـ«الحيواني» و«الفوضوي». كذلك فإنّ ترامب لطالما قاطع في مؤتمراته الصحافية الصحافيين وسخر منهم ورفض أسئلتهم، وحذا براك حذوه في قصر بعبدا مطالباً الصحافيين بـ«الصمت» و«التحضّر»، وهو ما يعزّز لغتهما الفوقية والنرجسية.
لغة الوصاية والاستعمار الجديد
ومن منظور علم النفس والفلسفة، فإنّ ما قام به توماس براك تنطبق عليه نظرية الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو ومفادها أنّ السلطة لا تُمارَس فقط بالقوة العسكرية أو السياسية، بل أيضًا من خلال التحكم بالمعرفة والخطاب. والصحافة تمثّل، في هذا السياق، قوة معرفية تهدد بنزع الأقنعة وكشف البُنى الخفية للسلطة.
وعندما طلب الموفد الأميركي من الصحافيين «السكوت» واستخدم تعبير «حيواني»، مارس سلطة لغوية فوقية تحوّل موقعه من «ضيف» إلى «حاكم مؤقت»، وحاول فرض روايته كالرواية الشرعية الوحيدة، بهدف إلغاء دور الإعلام كسلطة معرفية مستقلة. وبتعبير أدق، فقد مارس عنفاً ناعماً ضد «المعرفة المناهضة» أي الصحافة، لأنه أدرك أنّها قد تهدد مشروعيته الرمزية.
كذلك، يمكن الركون هنا إلى نظرية عالم النفس الاجتماعي إريك فروم الذي يرى أنّ بعض الأفراد، وخصوصًا رجال الأعمال أو السياسيين، يطوّرون «الطبع التسلّطي»، الذي يتميّز بحبّ السيطرة، وازدراء الضعفاء، وكراهية الحرية الحقيقية لأنها تخلخل النظام المسيطر عليه. وبراك، المنحدر من لبّ النظام الأميركي المتمحور حول المال والنفوذ، يتصرّف كما لو أنه لا يتحمّل المساواة في الموقف أي أن يُسأل ويجيب، ويشعر براحة أكبر في موقع الهيمنة وليس النقاش، ويحتقر البيئة التي لا يمكنه السيطرة التامة عليها.
واستناداً إلى هاتين النظريتين، فإنّ خطاب توماس براك لا يمكن قراءته فقط من زاوية الإهانة أو الزلّة الدبلوماسية، بل هو انعكاس صريح لمشهد الوصاية والاستعمار «الجديد»، الذي يتمثل في الإملاء عبر الكلام بدل الدبابات والجيوش.

